فصل: تفسير الآيات (11- 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (11- 15):

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)}
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ} بطغيانها وعداوتها.
وروى عطاء الخراساني عن ابن عبّاس قال: اسم العذاب الذي جاءهم الطغوى، فقال: كذّبت ثموت بعذابها.
وقرأه العامّة بفتح الطاء، وقرأ الحسن وحمّاد بن سلمة بطغواها بضمّ الطاء، وهي لغة كالفتوى والفتُوى والفتيا {إِذِ انبعث} قام {أَشْقَاهَا} وهو قدار بن سالف عاقر الناقة وكان رجلاً أشقر أزرق قصيراً ملتزق الخلق واسم أُمّه قديرة. أخبرنا محمد بن حمدون قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا عبد الرحمن قال: حدّثنا سفيان قال: حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن زمعة قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقر الناقة وقال: «انتدب لها رجل ذو عزّ ومنعة في قومه كأبي زمعة» وذكر الحديث.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {نَاقَةَ الله} إغراء وتحذير، أي احذروا عقر ناقة الله، كقولك: الأسد الأسد.
{وَسُقْيَاهَا} شربها وسقيها من الماء، فلا تزاحموها فيه، كما قال الله سبحانه: {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155].
{فَكَذَّبُوهُ} يعني صالحاً عليه السلام، {فَعَقَرُوهَا} يعني الناقة {فَدَمْدَمَ} دمّر {عَلَيْهِمْ} وأهلكهم {رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ} بتكذيبهم رسوله وعقرهم ناقته.
{فَسَوَّاهَا} فسوّى الدمدمة عليهم جميعاً، عمّهم بها، فلم يفلت منهم أحد. وقال المروج: الدمدمة: إهلاك باستئصال، وقال بعض أهل اللغة: الدمدمة: الإدامة. تقول العرب: ناقة مدمومة أي سمينة مملوءة، وقرأ عبد الله بن الزبير {فدهدم عليهم} بالهاء، وهما لغتان، كقولك امتقع لونه واهتقع إذا تغير.
{وَلاَ يَخَافُ} قرأ أهل الحجاز والشام فلا بالفاء وكذلك هو في مصاحفهم، الباقون بالواو، وهكذا في مصاحفهم {عُقْبَاهَا} عاقبتها.
واختلف العلماء في معنى ذلك، فقال الحسن: يعني ولا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقال الضحّاك والسدي والكلبي: هو راجع إلى العاقر، وفي الكلام تقديم وتأخير معناه: إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها.

.سورة الليل:

مكية، وهي ثلاثمائة وعشرة أحرف، وإحدى وسبعون كلمة، وإحدى وعشرون آية.
أخبرني محمد بن القاسم بن أحمد قال: حدّثنا عبدالله بن أحمد بن جعفر قال: أخبرنا أبو عمرو وأبو عثمان البصري قال: حدّثنا محمد بن عبدالوهاب العبدي قال: حدّثنا أحمد بن عبدالله بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامه، عن أُبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة والليل أعطاه الله حتى يرضى، وعافاه الله سبحانه من العسر ويسّر له اليسر».
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 13):

{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)}
{والليل إِذَا يغشى} النهار فيذهب بضوءه {والنهار إِذَا تجلى * وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} يعني ومن خلق.
أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيوب قال: حدّثنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا أبو عبيد قال: حدّثنا حجاج، عن هارون، عن إسماعيل، عن الحسن: أنه كان يقرأ: وما خلق الذكر والأنثى، فيقول: والذي خلق، قال هارون قال أبو عمر وأهل مكة: يقول للرعد: سبحان ما سبّحت له. وقيل: وخلق الذكر والأنثى، وذكر أنّها في قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء: والذكر والأنثى.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: أخبرنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا أبو معونة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: قدمنا الشام، فأتانا أبو الدرداء، فقال: أمنكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبد الله؟ قال: فأشاروا إليّ، فقلت: نعم أنا، فقال: فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية، {والليل إِذَا يغشى}؟ قال: قلت: سمعته يقرأها {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلّى والذكر والأنثى}.
قال لنا: والله هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها وهؤلاء يريدونني أن أقرأ {وَمَا خَلَقَ} فلا أُتابعهم.
{إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} إنّ عملكم لمختلف وقال عكرمة وسائر المفسرين: السعي: العمل، فساع في فكاك نفسه، وساع في عطبها، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والناس عاذيان فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها».
{فَأَمَّا مَنْ أعطى} ماله في سبيل الله {واتقى} ربّه واجتنب محارمه {وَصَدَّقَ بالحسنى} اي بالخلف أيقن بأن الله سبحانه سيخلف هذه، وهذه رواية عكرمة وشهر بن حوشب، عن ابن عباس، يدلّ عليه ما أخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم، عن محمد بن جرير قال: حدّثني الحسن بن أبي سلمة بن أبي كبشة قال: حدّثنا عبد الملك بن عمرو قال: حدّثنا عباد بن راشد، عن قتادة قال: حدّثنا خليل العصري، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم غربت شمسه إلاّ وبعث بجنبتها ملكان يناديان، يسمعهما خلق الله تعالى كلهم إلاّ الثقلين، اللهم أعطِ منفقاً خلفا وأعطِ ممسكاً تلفاً، فأنزل في ذلك القرآن، فأما من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى إلى قوله للعسرى».
وقال أبو عبد الرحمن السلمي والضحّاك: وصدّق بالحسنى، ب (لا إله إلاّ الله). وهي رواية عطية، عن ابن عباس. وقال مجاهد: بالجنة، ودليله قوله سبحانه {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وقال قتادة ومقاتل والكلبي: بموعود الله الذي وعده أن يثيبه.
{فَسَنُيَسِّرُهُ} فسنهيّئه في الدنيا، تقول العرب: يسّرت غنم فلان إذا ولدت أو تهيّأت للولادة، قال الشاعر:
هما سيدانا يزعمان وإنما ** يسوداننا إن يسّرت غنماهما

{لليسرى} للخلّة اليسرى، وهي العمل بما يرضاه الله سبحانه، وقيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
{وَأَمَّا مَن بَخِلَ} بالنفقه في الخير {واستغنى} عن ربّه فلم يرغب في ثوابه {وَكَذَّبَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} أي للعمل بما لا يرضى الله حتى يستوجب به النار، فكأنه قال: نخذله ونؤذيه إلى الأمرّ العسير، وهو العذاب. وقيل: سندخله جهنم، والعسرى اسم لها.
فإنْ قيل: فأي تيسير في العسرى؟ قيل: إذا جمع بين كلامين أحدهما ذكر الخير والآخر ذكر الشر جاز ذلك، كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] [التوبة: 34] [الانشقاق: 24].
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن ماهان محمد بن صي قال: حدّثنا شعبة، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة فأخذ عوداً فجعل ينكث في الأرض، فقال: «ما منكم من أحد إلاّ قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار»، فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكّل؟ فقال «اعملوا فكلٌّ ميسّر»، ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} الآيات.
{وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} قال مجاهد: مات، وقال قتادة وأبو صالح: هو لحد في جهنم، قال الكلبي: نزلت في أبي سفيان بن حرب.
{إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} أي بيان الحق من الباطل، وقال الفرّاء: يعني من سلك الهدى فعلى الله سبيله، كقوله سبحانه: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} [النحل: 9]، يقول: من أراد الله فهو على السبيل القاصد. وقيل: معناه: إنّ علينا للهدى والإضلال، كقوله: بيدك الخير وسرابيل تقيكم الحر.
{وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى} فمن طلبها من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق.

.تفسير الآيات (14- 21):

{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)}
{فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} تتوقد وتتوهج، وقرأ عبيد بن عمير {تتلظى} على الأصل، وغيره على الحذف {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى * الذي كَذَّبَ وتولى} قرأ أبو هريرة: ليدخلنّ الجنة إلاّ من يأبى، قالوا: يا أبا هريرة، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ فقرأ قوله سبحانه: {الذي كَذَّبَ وتولى}.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا برهان بن علي الصوفي قال: حدّثنا أبو خليفة قال: حدّثنا القعبني قال: حدّثنا مالك قال: صلّى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب، فقرأ فيها {والليل إِذَا يغشى}، فلمّا أتى على هذه الآية {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} وقع عليه البكاء فلم يقدر أن يتعدّاها من البكاء، وقرأ سورة أُخرى.
{وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى * الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} قال أهل المعاني: أراد الشقي والتقي، كقول طرفة:
تمنى رجال أن أموت فإن أمت ** فتلك سبيل لست فيها بأوحد

أي بواحد.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال: حدّثنا عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الله المقري قال: حدّثنا جدّي قال: حدّثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن سالم.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن يوسف قال: حدّثنا ابن عمران قال: حدّثنا أبو عبيد الله المخزومي قال: حدّثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنّ أبا بكر رضي الله عنه اعتق من كان يعذّب في الله: بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وبنتها وزنيرة وأم عميس وأمة بني المؤمّل.
فأما زنيرة فكانت رومية وكانت لبني عبد الدار، فلمّا أسلمت عميت، فقالوا: أعمتها اللاتِ والعزى.
فقالت: هي تكفر باللات والعزى، فردّ الله إليها بصرها، ومرّ أبو بكر بها وهي تطحن وسيّدتها تقول: والله لا أعتقك حتى يعتقك صُباتك، فقال أبو بكر فحلى إذاً يا أم فلان فبكمْ هي إذاً؟ قالت: بكذا وكذا أوقية، قال: قد أخذتها، قومي، قالت: حتى أفرغ من طحني.
وأما بلال فاشتراه، وهو مدفون بالحجارة، فقالوا: لو أبيت إلاّ أوقية واحدة لبعناك، فقال أبو بكر: لو أبيتم إلاّ مائة أوقية لأخذته، وفيه نزلت يعني أبا بكر، {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى * الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} إلى آخرها، وأسلم وله أربعون ألفاً فأنفقها كلّها، يعني أبا بكر.
وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو سعيد الحسن بن أحمد بن جعفر اليزدي قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن أبي عبد الرحمن المقري قال: حدّثنا سفيان، عن عتبة قال: حدّثني من سمع ابن الزبير على المنبر وهو يقول: كان أبو بكر يبتاع الضعفة فيعتقهم، فقال له أبوه: يا بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، قال: إنما أريد ما أُريد فنزلت فيه {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى * الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} إلى آخر السورة، وكان اسمه عبد الله بن عثمان.
عن عطاء، عن ابن عباس، في هذه الآية «أن بلالا لما أسلم ذهب إلى الأصنام فسلح عليها، وكان المشركون وكلوا امراة تحفظ الأصنام، فأخبرتهم المرأة، وكان بلال عبداً لعبد الله ابن جدعان، فشكوا إليه، فوهبه لهم ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء، وهو يقول: أحداً أحد، فمرّ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ينجيك أحد أحد، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن بلالا يعذَّب في الله، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب فابتاعه به».
وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أُمية بن خلف قال لإبي بكر حين قال له أبو بكر: أتبيعه؟ قال: نعم أبيعه بنسطاس، وكان نسطاس عبداً لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجواري ومواشي، وكان مشركاً وحمله أبو بكر على الإسلام على أن يكون له ماله، فأبى فأبغضه أبو بكر، فلمّا قال له أُمية: أتبيعه بغلامك نسطاس؟ اغتنمه أبو بكر وباعه به، فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ذلك لبلال إلاّ ليد كانت لبلال عنده، فأنزل الله سبحانه {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ} من أُولئك الذين أعتقهم {مِن نِّعْمَةٍ تجزى} يد نكافئه عليها {إِلاَّ} لكن {ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى * وَلَسَوْفَ يرضى} بثواب الله في العقبى عوضاً مما فعل في الدنيا.
وأخبرنا أبو القاسم يعقوب بن أحمد بن السري العروضي في درب الحاجب قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله العماني الحفيد قال: حدّثنا أحمد بن نصر بن خفيف القلانسي الرقّاء قال: حدّثنا محمد بن جعفر بن سوّار بن سنان في سنة خمس وثمانين ومائتين قال: حدّثنا علي ابن حجر، عن إسحاق بن نجح، عن عطاء قال:كان لرجل من الأنصار نخلة، وكان له جار، فكان يسقط من بلحها في دار جاره، فكان صبيانه يتناولون، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي عليه السلام «بعنيها بنخلة في الجنة»، فأبى قال: فخرج، فلقيه أبو الدحداح، فقال: هل لك أن تبيعها بجبس؟ يعني حائطاً له، فقال: هي لك، قال: فأتى النبي عليه السلام، فقال: يا رسول الله اشترها منّي بنخلة في الجنة، قال: نعم، قال: هي لك، فدعا النبي عليه السلام جار الأنصاري، فأخدها، فأنزل الله سبحانه وتعالى {والليل إِذَا يغشى} إلى قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} أبو الدحداح والأنصاري صاحب النخلة.
{فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} أبو الدحداح {وَصَدَّقَ بالحسنى} يعني الثواب {فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} يعني الجنة.
{وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى} يعني الأنصاري {وَكَذَّبَ بالحسنى} يعني الثواب {فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} يعني النار، {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} يعني به إذا مات كما في قوله: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى * لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى} صاحب النخلة {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} يعني أبا الدحداح {الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} يعني أبا الدحداح {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى} يكافئه بها، يعني أبا الدحداح {إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى * وَلَسَوْفَ يرضى} إذا أدخله الجنة. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بذلك بجبس وعذوقه دانية، فيقول: «عذوق وعذوق لأبي الدحداح في الجنة».

.سورة الضحى:

مكية، وهي مائة واثنان وسبعون حرفاً، وأربعون كلمة، وإحدى عشرة آية.
أخبرني محمد بن القاسم الفقيه قال: حدّثنا محمد بن يزيد المعدّل قال: حدّثنا أبو يحيى البزاز قال: حدّثنا محمد بن منصور قال: حدّثنا محمد بن عمران بن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: حدّثنا أبي، عن مجالد بن عبدالواحد، عن الحجاج بن عبدالله، عن أبي الخليل، عن علي بن زيد، وعطاء بن أبي ميمونة، عن زر بن حبيش، عن أُبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة والضحى، كان فيمن يرضاه الله عزّ وجلّ لمحمد أن يشفع له، وعشر حسنات يكتبها الله له بعدد كل يتيم».
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 8):

{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)}
{والضحى} قال المفسّرون: «سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وعن الروح، فقال: سأخبركم غداً ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي».
وقال زيد بن أسلم: «كان سبب احتباس جبرائيل عليه السلام كون جرو في بيته، فلمّا نزل عليه جبرائيل عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبطائه، فقال: يا محمد أما علمت أنّا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة».
واختلفوا في مدة احتباس الوحي عنه، فقال ابن حريج: اثني عشر يوماً، وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً، وقيل: خمسة وعشرين يوماً، وقال مقاتل: أربعين يوماً. قالوا: فقال المشركون: إنّ محمداً ودعّه ربّه وقلاه، ولو كان أمره من الله لتتابع عليه كما كان يفعل بمن قبله من الأنبياء. وقال المسلمون: يا رسول الله أما ينزل عليك الوحي؟ فقال: «وكيف ينزل عليّ الوحي وأنتم لا تنقون براجمكم ولا تقلّمون أظفاركم»، فأنزل الله سبحانه جبرائيل عليه السلام بهذه السورة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا جبرائيل ما جئت حتى اشتقت إليك»، فقال جبرائيل عليه السلام: وأنا كنت إليك أشدّ شوقاً ولكني عبد مأمور وما ننزل إلاّ بأمر ربّك.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا الحسن بن علي بن عفان قال: حدّثنا أبو أُسامة، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، أنه سمع جندب بن سفيان يقول: رمي النبي صلى الله عليه وسلم بحجر في إصبعه، فقال: «هل أنتِ إلاّ إصبع دميتِ * وفي سبيل الله مالقيتِ».
فمكث ليلتين أو ثلاثاً لا يقوم الليل، فقالت له امرأة: يا محمد ما أرى شيطانك إلاّ قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ليال. وقيل: إنّ المرأة التي قالت ذلك أم جميل امرأة أبي لهب، فأنزل الله سبحانه {والضحى} يعني النهار كلّه، دليله قوله: {والليل إِذَا سجى} فقابله بالليل، نظيره قوله: {أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 98] أي نهاراً، وقال قتادة ومقاتل: يعني وقت الضحى، وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس، واعتدال النهار من الحر والبرد في الشتاء والصيف، وقيل: هي الساعة التي كلّم الله فيها موسى، وقيل: هي الساعة التي أُلقي السحرة فيها سجّدا، بيانه قوله سبحانه: {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} [طه: 59] وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله: بإضمار الربّ مجازه: وربّ الضحى.
{والليل إِذَا سجى} قال الحسن: أقبل بظلامه، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، الوالبي عنه: إذا ذهب الضحّاك: غطّى كلّ شيء، مجاهد وقتادة وابن زيد: سكن بالخلق واستقر ظلامه، يقال: ليل ساج، وبحر ساج إذا كان ساكناً، قال الراجز:
يا حبذا القمراء والليل الساج ** وطرق مثل ملاء النسَّاج

وقال أعشى بني ثعلبة:
فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمّكم ** وبحرك ساج ما يواري الدّعامصا

{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} أي ما تركك منذ اختارك، ولا أبغضك منذ أحبّك، وهذا جواب القسم.
{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} من الثواب، وقيل: من النصر والتمكن وكثرة المؤمنين {فترضى}.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا ابو عبد الله محمد بن عامر السمرقندي قال: حدّثنا عمر بن بحر قال: حدّثنا عبد بن حميد، عن قتيبة، عن سفيان، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبد الله، عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ما هو مفتوح على أمتي من بعدي كفراً كفراً» فسرّني ذلك، فنزلت {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} قال: «أُعطي في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابها المسك، في كل قصر ما ينبغي له».
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج، أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثني عبّاد بن يعقوب قال: حدّثنا الحكم بن ظهر، عن السدي، عن ابن عباس: في قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} قال: رضا محمد ان لا يدخل أحد من أهل بيته النار، وقيل: هي الشفاعة في جميع المؤمنين.
أخبرنيه أبو عبد الله القنجوي قال: حدّثنا أبو علي المقري قال: حدّثنا محمد بن عمران بن أسد الموصلي قال: حدّثنا محمد بن أحمد المدادي قال: حدّثنا عمرو بن عاصم قال: حدّثنا حرب بن سريح البزاز قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن علي قال: حدّثني عمي محمد بن علي بن الحنفية، عن أبيه علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشفع لأمتي حتى ينادي ربي عزّ وجلّ: رضيت يا محمد، فأقول: ربّ رضيت» ثم قال لي: «إنّكم معشر أهل العراق تقولون: إن أرجى آية في القرآن {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} [الزمر: 53]» قلت: انا لنقول ذلك، قال: «ولكنّا أهل البيت نقول: إنّ أرجى آية في كتاب الله تعالى {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} وهي الشفاعة».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا أبو عامر بن سعدان قال: حدّثنا أحمد بن صالح المصري، قال: حدّثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدّثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله سبحانه في إبراهيم: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وقول عيسى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118] فرفع يديه ثم قال: «اللهمّ أُمّتي أُمّتي» وبكى.
فقال الله سبحانه: يا جبرائيل إذهب إلى محمد وربّك أعلم فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبرائيل، فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله سبحانه: يا جبرائيل اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.
ويروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمّا نزلت هذه الآية: «إذاً لا أرضى وواحد من أمتي في النار».
وقال جعفر بن محمد: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة رضي الله عنها وعليها كساء من جلد الإبل، وهي تطحن بيدها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أبصرها، فقال: «يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقد أنزل الله عليّ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى}».
ثم أخبر الله سبحانه، عن حاله عليه السلام التي كان عليها قبل الوحي، وذكّره نعمه، فقال عزّ من قائل: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى}.
أنبأني عبد الله بن حامد الأصبهاني قال: أخبرنا محمد بن عبد الله النيسابوري قال: حدّثنا محمد بن عيسى، قال: حدّثنا أبو عمر الحوصي، وأبو الربيع الزهراني، عن حمّاد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته، قلت: يا ربّ إنك آتيت سليمان بن داود ملكاً عظيماً، وآتيت فلاناً كذا، وآتيت فلاناً كذا، قال: يا محمد ألمْ أجدك يتيماً فآويتك؟ قلت: بلى أي رب، قال: ألمْ أجدك ضالا فهديتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألمْ أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت: بلى أي رب».
ومعنى الآية: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً} صغيراً فقيراً ضعيفاً حين مات أبواك، ولم يخلفا لك مالا، ولا مأوى، فجعل لك مأوى تأوي إليه، ومنزلا تنزله، وضمّك إلى عمّك أبي طالب حتى أحسن تربيتك، وكفاك المؤونة.
سمعت الاستاذ أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله الأصفهاني يقول: سمعت أبا القاسم الاسكندراني يقول: سمعت أبا جعفر الملطي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن موسى الرضا يقول: سمعت أبي يقول: سئل جعفر بن محمد الصادق: لم أؤتم النبي صلى الله عليه وسلم عن أبويه؟ فقال: لئلاّ يكون عليه حق لمخلوق.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري يحكي بإسناد له لا أحفظه، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه أنه قال في قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى}: هو من أقوال العرب: درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل وقد جاء في الشعر:
لا ولا درّة يتيمة بحر ** تتلالا في جونة البياع

فمجاز الآية: {أَلَمْ يَجِدْكَ} واحداً في شرفك، وفضلك، لا نظير لك، فآواك إليه.
وقرأ أشهب العقيلي {فآوى} بالقصر: أي رحمك. تقول العرب: آويت لفلان اية ومأواة أي رحمته.
{وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ} عما أنت عليه اليوم، فهداك إلى الذي أنت عليه اليوم.
قال السدي: كان على أمر قومه أربعين عاماً، وقال الكلبي: وجدك في قوم ضلال فهداك إلى التوحيد، والنبوة، وقيل: فهداهم بك، وقال الحسن والضحّاك وشهر بن حوشب وابن كيسان: ووجدك ضالا عن معالم النبوة، وأحكام الشريعة غافلا عنها، فهداك إليها، نظيره ودليله قوله سبحانه {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] وقوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52]، وقيل: ضالا في شعاب مكّة، فهداك إلى جدّك عبد المطلب، وردّك إليه.
روى أبو الضحى، عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضل، وهو صبي صغير في شعاب مكّة، فرآه أبو جهل، منصرفاً من أغنامه، فردّه إلى جدّه عبد المطلب، فمنّ الله سبحانه عليه بذلك، حين ردّه إلى جدّه على يدي عدوّه.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عبدوس قال: حدّثنا عثمان بن سعيد قال: حدّثنا عمرو بن عوف قال: أخبرنا خالد، عن داود بن أبي هند، عن العباس بن عبد الرحمن، عن بشر بن سعيد، عن أبيه قال: حججت في الجاهلية، فإذا أنا برجل يطوف بالبيت، وهو يرتجز، ويقول:
يا ربّ ردّ راكبي محمدا ** ردّ إليّ واصطنع عندي يدا

فقلت: من هذا؟ قيل: عبد المطلب بن هاشم، ذهبت أبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها، ولم يرسله في حاجة قط إلاّ جاء بها، وقد احتبس عليه، قال: فما برحتُ أنْ جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل، فقال: يا بُنيّ لقد حزنت عليك حزناً لا يفارقني أبداً.
وفي حديث كعب الأحبار، في مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدء أمره أن حليمة لمّا قضت حق الرضاع، جاءت برسول الله صلى الله عليه وسلم لتردّه إلى عبد المطلب، قالت حليمة: فأقبلتُ أسير حتى أتيت الباب الأعظم من أبواب مكّة، فسمعت منادياً ينادي: هنيئاً لكِ يا بطحاء مكة، اليوم يرد عليك النور والدين والبهاء والجمال، قالت: ثم وضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقضي حاجة وأصلح ثيابي، فسمعت هدّة شديدة، فالتفت فلم أره، فقلت: معاشر الناس أين الصبي؟ فقالوا: أي الصبيان؟
قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الذي نضرّ الله به وجهي، وأغنى عيلتي، ربيّته حتى إذا أدركت فيه سروري وأملي أتيت به لأردّه، وأخرج هذا من أمانتي، اختلس من بين يدي قبل أن يمس قدمه الأرض، واللات والعزى لئن لم أره لأرمينّ بنفسي من شاهق الجبل، فلأقطعنّ إرباً إرباً.
قالوا: ما رأينا شيئاً، فلمّا آيسوني وضعت يدي على أم رأسي، وقلت: وامحمداه واولداه، فأبكيت الجواري الأبكار لبكائي، وضجّ الناس معي بالبكاء حرقةً لي، فإذا أنا بشيخ كالفاني يتوكأ على عصا، قال: مالك أيتها السعدية؟
قلت: فقدت ابني محمداً، فقال: لا تبكي أنا أدلّك على من يعلم علمه، وإن شاء أن يردّه فعل، قلت: فدتك نفسي، ومن هو؟ قال: الصنم الأعظم هبل.
قالت: فدخل وأنا أنظر، فطاف بهبل وقبّل رأسه وناداه: يا سيداه، لم تزل منتك على قريش قديمة، وهذه السعدية تزعم أن ابناً لها قد ضلّ، فردّه إن شئت، وأخرج هذه الوحشة عن بطحاء مكة، فأنها تزعم أن ابنها محمداً قد ضلّ، قال: فانكب هبل على وجهه، وتساقطت الأصنام، وقالت: إليك عنّا أيها الشيخ. إنما هلاكنا على يدي محمد.
قالت: فأقبل الشيخ أسمع لأسنانه اصطكاكاً، ولركبته ارتعاداً، وقد ألقى عكازته من يده وهو يقول: يا حليمة إن لابنك رباً لا يضيّعه فاطلبيه على مهل، قالت: فخفت أن يبلغ الخبر عبد المطلب قبلي، فقصدته فلمّا نظر اليّ، قال: أسعد نزل بكِ أم نحوس؟، قلت: بل النحس الأكبر، ففهمها منّي، وقال: لعلّ ابنك ضلّ منك، قالت: قلت: نعم فظنَّ أن بعض قريش قد اغتاله، فسلّ عبد المطلب سيفه لا يثبت له أحد من شدة غضبه، ونادى بأعلى صوته: يا آل غالب، يا آل غالب، وكانت دعوتهم في الجاهلية فأجابته قريش بأجمعها، وقالوا: ما قصتك؟، قال: فُقد ابني محمد، قالت قريش: اركب نركب معك، فإنْ تسنّمت جبلا تسنماه معك، وان خضت بحراً خضناه معك، فركب وركبت قريش معه فأخذ على أعلى مكة وانحدر على أسفلها، فلمّا أن لم ير شيئاً ترك الناس واتشح وارتدى بآخر، وأقبل إلى البيت الحرام، فطاف اسبوعاً ثم أنشأ يقول:
يا ربّ ردّ راكبي محمداً ** ردّه ربي واتخذ عندي يدا

يا ربّ إنْ محمد لم يوجدا ** مجمع قومي كلّهم مبدّدا

فسمعنا منادياً ينادي من الهواء: معاشر الناس لا تضجوا، فان لمحمد ربّاً لا يخذله ولا يضيّعه، قال عبد المطلب: يا أيها الهاتف ومن لنا به وأين هو؟، قال بوادي تهامة عند شجرة اليمن.
فأقبل عبد المطلب راكباً متسلحاً، فلمّا صار في بعض الطرق تلقّاه ورقة بن نوفل فصارا جميعاً يسيران، فبينما هم كذلك إذ النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يجذب الأغصان ويعبث بالورق، قال له عبد المطلب: من أنت يا غلام؟
قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال عبد المطلب: فدتك نفسي وأنا جدّك، ثم حمله على قربوس سرجه وردّه إلى مكة واطمأنت قريش بعد ذلك.
وقال سعيد بن المسيب: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة، فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء على ناقة إذ جاء إبليس، وأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق، فجاء جبرائيل فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة وردّه إلى القافلة، فمنّ الله عليه بذلك».
وقيل: وجدك ضالا ليلة المعراج حين انصرف عنك جبرائيل لا تعرف الطريق، فهداك إلى ساق العرش.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثني ابن حبيش قال: قال بعض أهل الكلام في قوله: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى}: إن العرب إذا وجدت شجرة في فلاة من الأرض وحيدة ليس معها ثانية يسمونها: ضالة، فيهتدون بها إلى الطريق.
قال: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} أي وحيداً ليس معك نبي غيرك فهديت بك الخلق إليّ، وقال عبد العزيز بن يحيى ومحمد بن علي الترمذي: ووجدك خاملا لا تذكر ولا تُعرف من أنت، فهداهم إليك حتى عرفوك، وأعلمهم بما منّ به عليك.
قال بسام بن عبد الله: ووجدك ضالا نفسك لا تدري من أنت فعرّفك نفسك وحالك، وقال أبو بكر الورّاق وغيره: ووجدك ضالا بحب أبي طالب فهداك إلى حبّه، وغيره: وجدك محبّاً فهداك إلى محبوبك، دليله قوله سبحانه، إخباراً عن إخوة يوسف {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8] وقوله سبحانه: {تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم} [يوسف: 95] اي فرط الحب ليوسف.
وقيل: وجدناك ناسياً شأن الاستثناء حين سُئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، دليله قوله: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] أي تنسى، وقال سهل: وجد نفسك نفس الشهوة والطبع، فغيّره إلى سبيل المعرفة والشرع، قال جنيد: وجدك متحيراً في بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه، لقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل: 44] وقوله: {لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ} [النحل: 64].
قال بندار بن الحسين: ليس قائما مقام الأستدلال فتعرفت إليك، وأغنيتك بالمعرفة عن الشواهد والأدلة، وقيل: وجدك طالباً لقبلتك ضالا عنها فهداك إليها.
{وَوَجَدَكَ عَآئِلاً} فقيراً عديماً فأغناك بمال خديجة، ثم بالغنائم، وقال مقاتل: فرضاك بما أعطاك من الرزق، وقرأ ابن السميقع: وجدك عيّلا بتشديد الياء من غير ألف على وزن فيعل، كقولك: طاب يطيب فهو طيّب. وعن ابن عطاء: وجدك فقير النفس، وقيل: فقيراً إليه فأغناك به، وقيل: غنياً بالمعرفة فقيراً عن أحكامها، فأغناك بأحكام المعرفة حتى تم لك الغنى.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش، عن بعضهم أنه قال: وجدك عائلا تعول الخلق بالعلم فأغناك بالقرآن والعلم والحكمة، وقال الأخفش: وجدك ذا عيال. دليله قوله صلى الله عليه وسلم: «وابدأ بمن تعول».
عن ابن عطاء: لم يكن معك كتاب ولا شريعة فأغناك بهما، وقيل: وجدك عائلا عن الصحابة محتاجاً إليهم، فأكثرنا لك الاخوان والأعوان، وحذف الكاف من قوله فآوى واختيها لمشاكلة رؤوس الآي، ولأن المعنى معروف.